موقع الشيخ طلاي

Menu

سلطانة الهند – الشيخ علي الطنطاوي

الجلسة الثانية والثلاثون: 07/11/2012م الموافق ليوم 22 ذي الحجّة 1433هـ

أيّها السادة الحضور، أيّها الأساتذة ومحبّي الثقافة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حديث جلستنا في هذه الليلة سيكون مقتبسا من كتاب “رجال من التاريخ” للأديب الشيخ عليّ الطنطاوي.

وهذا الكتاب يضمّ مقالات مختلفة تاريخية كان الشيخ عليّ الطنطاوي يذيعها كلّ أسبوع من إذاعة دمشق في القرن الماضي، والنصّ بعنوان “سلطانة الهند“.

يقول الكاتب:

«أنتقل معكم اليوم إلى بلد بعيد، وزمن بعيد. رحلة طويلة في الأرض نقطع فيها البوادي والصحاري، ونعْبُرُ فيها أنهارا ونركب بحارا، ورحلة طويلة في الزمان نطوي فيها سنين وأدهارا، حتّى نصل إلى دلهي قبل ثمانية قرون.

إلى المدينة التي كانت قرية فجعلها ملوك الإسلام من أعظم مدن العالم، إلى المدينة التي افتتحها السلطان قطب الدين أيبك سنة 584هـ [88-1189م]، وكان مملوكا جاهلا، فشراه القاضي فخر الدين الكوفي، فخرَّجه في العلم والتقوى، ثمّ شراه السلطان شهاب الدين الغوري، فنشأ على الشجاعة والقتال، وكانت له هِمّة، وكانت له عبقرية، فجعلته مَلكًا بعد أن كان مملوكًا، وكُتب له شرف فتح عاصمة الأرض بعدما طرق بابها في الزمان الأوّل الفاتح الشاب محمّد بن القاسم الثقفي، ثمّ جاس خلالها السلطان القائد محمود بن سبكتكين الغزنوي.

وكان لقطب الدين مملوك نبيه اسمه ألتمش، وضبطه ابن بطوطة: “للمش”.

لا تعجبوا من مماليك يصيرون ملوكا، فإنّها سنّة ذلك العصر (مع الأسف). لقد مرّ على البلاد الإسلامية فترةٌ حَكَمَ فيها المماليك، وقد كان منهم خير كثير، وكان منهم شرّ…

أقول: إنّ ألتمش هذا كان عبدًا مملوكا لقطب الدين، فربّاه على خلال الخير، وصفات الرجولة، فلمّا مات قطب الدين، جمع ألتمش القضاة والمفتين، والوجوه والأعيان، وأعلن استقلاله بالملك…

وكان محاربا مظفّرا، وإداريا حكيما، وسياسيا موفّقا، وحاكما عدلا، ولكن أولاده لم يكونوا مثله ولم يسلكوا طريقه، بل لقد أفسدهم النعيم وفتنتهم الدنيا، فانصرفوا إلى لذّاتهم، ورغبات نفوسهم، وبذل في إصلاحهم جهده، فلم يفد في إصلاحهم جهد، فيئس منهم، وكانت له بنت وهب الله لها جسدًا يجمع متانة التركيب، وقوّة الأسر، إلى جمال الخلقة، وفتنة النظر، وأعطاها قلبا ذكيا، وفكرا نافذا، وذكاء يكشف بواطن الأمور، ويحلّ معضلات المشكلات، وشجاعة تقحم الموت، ولا تبالي الأخطار، بنتا اسمها رضية، فصرف همّه إليها، وجعل معوَّله عليها، ووكّل بها المعلّمين والمربّين، ثمّ درّبها على فنون القتال، وخدع السياسة، ومرَّسها بالحرب، وكان إذا غاب ولاّها الأمر مكانه، فسدَّت ما كان يسدُّه أبوها وربّما زادت بفضلها عليه…

وتولّت هي [بعد موت أبيها] السلطنة، وكان ذلك في يوم 18 ربيع الأوّل سنة 604هـ [12 أكتوبر 1207م]. وكان ذلك حدثا في الإسلام، وكان شيئا جديدا وغريبا لم يعرفه التاريخ الإسلامي، وهذا الحدث هو موضوع حديثي اليوم أيّها السادة…

بويعت بالملك، فودّعت أنوثتها واتّخذت زيّ الرجال، ولبست لباسهم، وبرزت للناس، متّخذة هيئة الجدّ والصرامة، وحسبت أنّها تستطيع بهذا التبديل، أن تبدّل خلقة الله فيها، وأن تجعل من نفسها رجلاً، وجمعت أطراف الأمور كلّها في قبضتها، وأعادت سيرة أبيها في عدله، وفي شجاعته، وكانت تحلّ المشكلات بنفسها، وتسوس الرعية، وتخوض المعارك. وشهد لها المؤرّخون أنّ عهدها كان أحسن عهد عرفته الهند.

ولكن الناس مع ذلك لم يكونوا راضين، وكانوا يأبون أن تحكمهم امرأة، وانطلقت ألسنة المحدثين والناقمين والطامعين…

لقد جمعت من العقل والحزم، والشجاعة وحسن السياسة ما لم يجمع مثله إلاّ الأفذاذ من الرجال، ولكنّها أُتيت من كونها امرأة. إنّها سلطانة ولكنّها بشر كذلك، فإن تزوّجت تبعت بحكم الطبيعة زوجها واستقادت له، وكان هو القوّام عليها، فصار هو السلطان دونها، وإن أعرضت عن الزواج كانت في حرب مع طبيعتها وغرائزها…

كان لها عبد حبشي اسمه ياقوت، تأنس به، وتثق بإخلاصه، فرفعته من مرتبته الصغيرة إلى رتبة أمير الأمراء، فأطلقت بذلك ألسنة الناس بالكلام عليها…وأثاروا أمراء الأقاليم عليها، فكان أوّل من أعلن الثورة حاكم بتهندا، فسيّر إليها الجيش، فأسرعت تقود جيشها إلى المعركة، وهي واثقة من النصر، ولكن الجيش الذي أوغرت صدره تلك الشائعات، لم يعد يرى فيها سلطانة، بل امرأة قبيحة السيرة، مهتوكة الستر، فلم يكد يبصر راية الحاكم الثائر، حتّى انضمّ إليها وتخلّى عن ملكته [لأنّها امرأة، فهربت].

وضلّت أياما وهي بلا زاد ولا مأوى، حتّى نال منها التعب والجوع، فلجأت إلى حرّاث منفرد في البرية يحرث أرضه، فسألته القِرى فلم تجد عنده إلاّ كسرة خبز، فأكلتها ونامت من التعب مكانها، وهي بلباس القواد. وكانت نومتها الأخيرة.

رأى الفلاّح طرفا من شعارها (ثيابها الداخلية)، فعلم بأنّها امرأة فاحتال عليها…ثمّ قتلها، ودفنها في الحقل، وأخذ ثيابها يبيعها في البلد، فشكّ الناس فيه، وقادوه إلى الحاكم، فاعترف بفعلته فقُتل، وأخرجت الجثّة فدفنت في قبر مهيب، وكان ذلك في 25 ربيع أوّل 637هـ [25 أكتوبر 1239م].

قال ابن بطّوطة: وقبرها يزار ويُتبرّك به.

وكان ذلك نهاية القصّة. قصّة لو أُخرجت كما هي فيلما سينمائيا لكانت في حقيقتها أروع وأمتع من كثير من الأفلام، قصّة بها بطولة، وفيها عبرة، وفيها درس بليغ…

Categories:   ندوة الإربعاء

Comments

Sorry, comments are closed for this item.