الضحك- فيض الخاطر – أحمد أمين
جلسة يوم 30/03/2011م الموافق ليوم 26 ربيع الثاني 1432هـ
أيّها السادة الحضور، إخواني أحبّاء الثقافة، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
إطلالتنا هذه الأمسية، نرجو من الله بركتها، ستكون في نصّ يتحدّث صاحبُه عن الضحك وأثره في نفوس الناس وحياتهم.
النصّ للكاتب الألمعي صاحب الأبحاث الرزينة، والدراسات القيّمة أحمد أمين، وهو خرّيج دار العلوم بمصر في الخمسين الأولى من القرن الماضي، وأخصّ بالذكر من مؤلّفاته إسلامياته الممتعة: “فجر الإسلام” و”ضحى الإسلام” و”ظهر الإسلام” و”عصر الإسلام”؛ ولو كان المرحوم حيّا لكتب لنا أيضا في عصر غروب الإسلام.
النصّ من كتابه القيّم كذلك، فيض الخاطر، الجزء الأوّل.
« الضحك.
ما أحوجني إلى ضحْكةٍ تَخرجُ من أعماق صدري، فيدوّي بها جوّي! ضحكةٍ حيّةٍ صافيةٍ عاليةٍ ليست من جنس التبسُّم، ولا من قبيل السخرية والاستهزاء، ولا هي ضحكةٌ صفراءُ لا تعبرّ عمّا في القلب؛ وإنّما أريدها ضحكةً أمسكُ بها صدري، وأفحصُ بها الأرض برِجلي، ضحكةً تملأُ شَدْقَيَّ، وتُبْدي ناجِذَيَّ، وتفرِّجُ كربي، وتكْشِفُ همّي.
ولستُ أدري لماذا تجيبني الدّمعَة، وتستعْصي عليّ الضَّحكة، ويُسْرِعُ إليّ الحُزْن، ويُبطئُ عنِّي السرور. ولي نفسٌ قد مهَرَتْ في خلْق أسباب الحزنِ، ونبَغَتْ في اقتناصِ دواعيه، تخلُقُها من الكثير، ومن القليل، ومن لا شيءَ، بل وتخلُقُها من دواعي الفرحِ أيضا؛ وليست لها هذه المهارة ولا بعضها في خلقِ أسباب السرور، كأنّ في نفسي مستودَعًا كبيرًا من اللون الأسود، لا يظهَرُ مَظْهَرٌ أمام العين حتّى تُسْرِعَ النفسُ فتغتَرفَ منه غرفةً تسوِّدُ بها كلّ المناظر التي تُعرَضُ لها؛ ثمّ ليس لها مثلُ هذا المستودع من اللون الأحمر أو اللون الأبيض! !
ولكن لِمَ خصّت الطبيعةُ الإنسانَ بالضحك ؟
السببُ بسيطٌ جدًّا. فالطبيعة لم تحمِّل حيوانًا من الهموم ما حمّلَتْهُ الإنسان، فَهَمُّ الحمار والكلب والقرد وسائر أنواع الحيوان أَكْلَةٌ يأكلها في سذاجة وبساطة، وشربَةٌ يشربها في سذاجة وبساطة أيضا؛ فإذا نال الحمار قبضَةً من تِبْنٍ وحفنةً من فولٍ وغَرْفةً من ماءٍ، فعلى الدنيا العفاء؛
ولكن تعالَ معي فانظر إلى الإنسان المعقَّدِ المركَّبِ ! يحسُبُ حسابَ غده كما يحسُبُ حساب يومه، وكما يحسُب حساب أمْسِهِ، ويخلق من هموم الحياة ما لا طاقة له به.
وإنّ الطبيعة عوَّدَتْنا أن نجعل لكلّ بابٍ مفتاحا، ولكلّ كرْبٍ خلاصا، ولكلّ عقدة حلاّ، ولكلّ شِدّة فرجًا، فلمّا رأت الإنسانَ يُكثرُ من الهموم ويخلق لنفسه المشكلات والمتاعب التي لا حدّ لها، أوْجَدَت لكلّ ذلك علاجا، فكان الضحك.
والطبيعة ليست مُسْرِفةً في المِنَح، فلمّا لم تجد للحيوانات كلّها همومًا لم تُضْحِكْها، ولمّا وجدت الإنسان وحده هو المهموم المغموم، جعلته وحده هو الحيوان الضاحك.
لو أنصفَ الناس لاستغنَوا بثلاثة أرباع ما في الصيدليات بالضحك، فضحكةٌ واحدة خير، ألف مرّة، من برشامة “أسبيرين” وحبّة “كينين”، وما شئتَ من أسماء أعجمية وعربية؛ ذلك لأنّ الضَّحكةَ علاج الطبيعة، و”الأسبيرين” وما إليه علاج الإنسان، والطبيعة أمْهرُ علاجًا وأصدق نظرًا وأكثر حُنْكَة…
فانْفجار الإنسان بضَحكةٍ يُجري في عروقه الدّمَ، ولذلك يَحْمرُّ وجهُه، وتنْتفخُ عروقُه؛ وفوق هذا كلّه فللضَّحكةِ فعلٌ سِحْريّ في شفاء النفس وكشْفِ الغمّ، وإعادة الحياة والنشاط للروح والبدن، وإعداد الإنسان لأنْ يستقبل الحياة ومتاعبَها بالبِشْر والتِّرْحاب…
والضَّحِكُ بَلْسَمُ الهموم ومَرْهَمُ الأحزان، وله طريقة عجيبةٌ يستطيع بها أن يحمل عنك الأثقال، ويحُطّ عنك الصعاب، ويفُكّ عنك الأغلال -ولو إلى حين- حتّى يقْوى ظهْرُك على النهوض بها، وتشْتدَّ سواعدُك لحمْلها.
Categories: ندوة الإربعاء
Sorry, comments are closed for this item.