ميزان العلم – د.محمد بباعمي
في لحظة تأملٌ وتفكُّر طرحت سؤالا ما لبث أن تحوَّل إلى إشكال بسيط، ثم آل إلى إشكال معقَّد ونصُّه:
*ما هو الميزان الذي أزن به العلم؟
فكان هذا السؤال – البسيط – بمثابة السؤال عن المتر – الآلة – الذي أقيس به المتر، وعن اللتر – الوعاء – الذي أكيل به اللتر… أي: ما هو الميزان الذي أزن به الميزان؟
تصوَّر لو أنَّ وحدة من الوحدات المتداولة كان لها صفة التغير وعدم الثبات، هل ستحافظ على صفة الوحدة، وعلى امتياز الوحدة، وتكون بالتالي مرجعا للناس في وظائفهم؟
الكلُّ سيجيب بلا.
إذن، هل العلم له صفة الثبات أم صفة التغير؟
لا شكَّ أنَّ العلم لو اكتسب صفة الثبات لَما تطوَّر شرو نقير، ولكانت مكتشفات العصر الحجري هي ذات مكتشفات العصر الحديدي، وعصر الطباعة… إلى عصر المعلومات، والعصر البيولولوجي…
من هنا يجيب الكلُّ أنَّ العلم له صفة التغير والنماء، بل إنَّ أحد المفكرين يعتبر أنَّ ما تحقق من ثورة علمية منذ التسعينيات من القرن الماضي إلى اليوم يقاس بمقياس ألفيٍّ، لا بمقياس ميئيٍّ ولا عشريٍّ ولا أحاديٍّ… أي أنَّ سنَة منه تعدل ألف سنة مما قبله، بالطبع في التطور العلمي…
ما دام العلم بهذه الصفة، فكيف يُعتبر ميزانا لكلِّ شيء؟ في عرف العلميين والوضعيين والتجريبيين على الأقلِّ؟
يعود الإشكال مرَّة ثانية: ما هو مقياس العلم إذن؟
بداية، يجب أن لا ننساق وراء النزعة العلمية المتطرِّفة، فليست المعرفة كلُّها مقتصرة على العلوم المادية والطبيعية والفزيائية… بل إنَّ القسم الأكبر منها يندرج ضمن المعارف الدينية، والإنسانية، والتاريخية، والاجتماعية…
وإن كانت طبيعة العلوم المادية هو التغير والتطور السريع، ومن ثمَّ لم تصلح أن تكون مقياسا للعلم؛ فما بال العلوم الإنسانية إذن؟ ألا يمكن أن تكون مقياسا للعلم؟
إنَّ ثبات هذه العلوم لا يعني صلاحيتها أن تكون مقياسا للعلم، ذلك أنَّها تملك صفة أخرى هي: التعارض والتضارب المبالَغ فيه. فثمة مثالية في مواجهة العقلانية، مثلا… ومذاهب أميل إلى الجماعة وأخرى أميل إلى الفرد… وليبرالية مفرطة في مواجهة شيوعية قاسية … وهكذا، مما لا يمكن معه أن نتخذ هذه المنطلقات العلمية الإنسانية مقياسا للعلم.
وفي الأخير، كثرت النظريات، وتعدَّدت المناهج، لكن النتائج هي ذات النتائج، فلم تتقدم البشرية في هذه المجالات خطوة واحدة.
وأسأل مرَّة ثالثة: ما هو مقياس العلم إذن؟
حاولت أن أجيب عن هذا السؤال ضمن منظومة الفكر الإسلامي، فقلت: كيف أقيس بين عالم وعالم في نفس التخصُّص؟
ليكن المثال من علم العقيدة؟
فكيف أعرف أيَّ العلماء أرسخ قدما من الآخر في ظل هذا التخصص الأساس من العلوم الإسلامية؟
والنتيجة في العادة تنتهي بالاعتقاد، وبالانتماء… فكلُّ متمذهب – ولو نظريا – يَعتبر العالِِم الذي يستقي منه، وينتسب إليه، هو الأعلم، والأحقُّ، والأكثر صوابا…
لكن، كان ذلك تحت ظلِّ أحادية مصدر العقيدة، وأحادية التكوين، فما هو شأن هذا العصر، الذي تعدَّدت فيه المصادر، وتشعَّبت الآراء، واختلط على الناس أمر الدين والدنيا… ألسنا في حاجة إلى ميزان جديد للعلم؟
في العادة يتم الاختيار بين مجتهد ومجتهد على أساس من التقليد… بل إنَّ المجتهد المتَّبَع نفسه هو الذي يضع منهج التقليد، ويرسم صورةَ التقليد، ويبني قواعد التقليد… فيغلق على المقلِّد منافذ الاختيار، لكن بشكل سلس وهادئ…
ولكننا نعيد السؤال مرَّة أخرى: كيف يتم قياس العلم، وما هو مقياس العلم؟
فهل نعتبر حجم المعارف والمعلومات هو المقياس للعلم وللعالم… ونزن ذلك بعدد المؤلفات، والمسائل… المنسوبة إلى هذا العالم أو ذاك؟
كلاَّ، إنَّ الكثرة لا تدل على التفوق.
وهل نؤول إلى عدد الأتباع، ونجعله مقياسا ودليلا، ونعتبر كلَّ من كثر أتباعه ومريدوه على حقٍّ، وكلَّ من قلَّ أتباعه ومريدوه على باطل؟
بالطبع لا، لأنَّ عدد الأتباع والمريدين ليس مرجِّحا ولا دليلا على التفوق، وقد يكون علامة على الفعالية والقوة والجبروت… وتدلُّ على هذا الحقائقُ التاريخية، بل والآيات القرآنية.
بعض المبتدئين من طلبة العلم الشرعيِّ يحمِّلون الناس مسؤولية الاختيار بين مجتهد ومجتهد… وهم بذلك يعبِّرون عن جهلهم بطبيعة العلم؛ ذلك أنَّ التمييز بين عالم وعالم أصعب وأعقد من التمييز بين مسألة ومسألة، وبين رأي ورأي… فالذي يميز بين عالم وآخر يجب أن يكون أعلم ممن يحكم عليه؛ وإلاَّ كان الحكَم أجهل من المحكوم عليه.
فما هو مقياس الترجيح إذن؟
أعتقد أنَّ العالم في العقيدة هو أقرب الناس وأقدرهم على أن يعرف حدَّ علمه وحدَّ جهله… وهو أكثرهم جرأة على أن يعترف بجهله ويقرَّ بضعفه، بلا حرج… ذلك أنه يؤمن أنَّ الكمال المطلق لله وحده… وهذه من مسلَّمات العقيدة.
ومن ثمَّ فإنَّ المقياس في الترجيح هو في النظر إلى احتمال الخطأ له، واحتمال الصواب لمن يخالفه الرأي…
نعم، قد ينمِّق البعض عبارات وشعارات تعبِّر عن إمكان الخطأ في جانبهم، والاعتراف بالقصور البشري في معارفهم… لكن للأسف، قلَّ من العلماء – في حين الجدل، وضمن سياق الحوار العقدي – من يقرُّ في كلِّ مسألة، وفي كلِّ خلاف مع عالم آخر أو مدرسة أخرى… قلَّ منهم مَن يذكِّر بضعفه هو، وبنسبية معارفه، وبإمكان الصواب مع مخالفه… ولهذا تكون النتيجة غالبا، تسفيه المخالف، وتضليله، وتبديعه…
بهذا التحليل اكتشفنا مقياس العلم، فيما نعتقد، وقد نكون مخطئين ولا ريب، ونصوغه في العبارة التالية:
من عرف حدود جهله، وأقرَّ بها، واحتمل الصواب في مخالفه، واحتمل الخطأ من جهته؛ في مقام الجدال والحوار العقدي… لا في مقام الوعظ، وصياغة المبادئ والتنظير فقط… فإنه بهذه الصفة، هو الأعلم، وهو الأجدر بالريادة العلمية… أمَّا من اجتهد في تسفيه مخالفه، واستعمل عبارات التضليل والتبديع والتفسيق في حقِّ من خالفه الرأي والمذهب، فإنه إلى الجهل أقرب، وجدير أن لا يعدَّ في عداد العلماء الربانيين الأصلاء…
ولذا، فإني سأحاول في قراءاتي المستقبلية أن أتتبع مواطن النسبية والإطلاق، وصفة الأحكام على الآخر، والأحكام على الذات، وأعقد علاقة تناسبية بين مكانة العالم وقدره، وأحكامه وإطلاقاته…
وأفترض أنه كلما ازداد علم العالم أقلع عن التأكيد، وعن الإطلاق، وعن التبديع… وكلَّما قلَّ علمه، سارع إلى ادعاء الحقِّ المطلق في جهته، والباطل المطلق في جهة مخالفه…
مقياس العلم إذن، هو التواضع والاعتراف بإمكان الخطأ… فاللهمَّ ارزقنا من هذه الخلال الحميدة، والخصال الجليلة.
محمد موسى باباعمي -مقال منقول من موقع معهد المناهج.
Categories: ضيف الموقع
Sorry, comments are closed for this item.