موقع الشيخ طلاي

Menu

منهج الدعوة عند الإباضية- الدكتور محمّد صالح ناصر

جلسة يوم  13/10/2010م الموافق ليوم 5 ذي القعدة 1431هـ

أيّها السادة الأعزّاء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إخواني لقد اقترح البعضُ منكم بعد أن حدّثتكم في الحصّة الماضية عن الكتاب الجديد: “الإمام عبد الله بن إباض الحيادي…”،

اقترحتم أن أخصّص بعض حصص في جلساتنا هذه عن التاريخ، وخاصّة التاريخ الخاصّ.

ولا أكتمكم إخواني أنّني لا أرغب في إثارة تلك الصور المفزعة التي مرّت على الأمّة الإسلامية في أوّل نشأتها، كما أنّني لا أرغب في الحديث عن الفقه واختلافات الفقهاء وأبحاثهم البزنطية في الغالب التي لا تنتهي إلى ما يجمع ولا يفرّق، ويوصل إلى الحقّ المبين بغير جدال عقيم ومهاترات.

ومع ذلك ونزولا عند رغباتكم الكريمة أختار في هذه الحصّة نصّا من كتاب “منهج الدعوة عند الإباضية”، للدكتور الفاضل محمّد صالح ناصر، نشر جمعية التراث سنة 1999م.

يقول الدكتور في ص29 في الفقرة الثالثة منها ملخِّصا باختصار النكبة التي حلّت بصحابة رسول الله، والمصيبة التي قصمت كلمتهم وشتّتت آراءهم عند مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان، وعن الحروب الأربعة التي كانت السبب في افتراق المسلمين إلى أيامنا هذه رغم مئات السنين التي مرّت على الأمّة الإسلامية؛

وقد قال الله عنها: }كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللهِ{.

وقال تعالى فيما أوحى به إلى النبيء عليه السلام: }وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً{.

يقول الدكتور محمّد ناصر عن نشأة الإباضية ما يلي:

«لا يمكن للدارس الموضوعي أن يفصل نشأة الإباضية عن الظروف السياسية التي عرفها المسلمون حكّاما ومحكومين، وهم يتنازعون حول السلطة، ولاسيما بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان في سنة 36هـ/ 656م، فقد أفرزت تلك الظروف انقسامات خطيرة في صفوف المسلمين لم تكن معروفة من قبل، انحرفت بها عن مفهوم الأمّة الإسلامية الواحدة الخيِّرة، التي أُخرجت للناس، لتصبح فرقًا وطوائف وأحزابًا تتعصّب للعشيرة والقبيلة، وتركن إلى الدنيا وشهواتها، وتلك أمور معروفة مشهورة في كتب التاريخ لا نحبّ ولا نرغب في بسط القول فيها إلاّ بقدر ما نمهّد به لموضوع بحثنا وهو نشأة الإباضية. ولا خلاف بين الباحثين في أنّ النشأة تعود بالدرجة الأولى إلى النزاع حول إمامة المسلمين، ومن يستحقّها، وما هي شروطها، وفي ظلّ نشأة الطوائف الحزبية المتطلّعة إلى الحكم والسيادة راحت كلُّ طائفة تبرّر رأيها وموقفها بالجدال، وبالسيف أحيانا، وكلّ طائفة ترى أنّ الحقّ إلى جانبها وأنّ غيرها على باطل، وهكذا تفاقم الوضع بين المسلمين إلى صراع مسلّح مات فيه خلق كثير، وعرف تاريخ المسلمين معارك دموية مثل معركة الجمل بين عليّ وأنصاره من جهة، وطلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى سنة 36هـ/ 656م، تلتها معركة صفّين بين عليّ وأنصاره من جهة، ومعاوية وعمرو بن العاص ومن معهما من جهة أخرى سنة 37هـ/ 657م، ثمّ معركة النهروان بين عليّ وأنصاره الذين بقوا إلى جانبه بعد التحكيم في صفّين، وبين الذين انشقّوا عنه من أنصار الأمس بعد أن اختلفوا معه في قبوله التحكيم، ورأوه انسلاخا عن الخلافة وإمامة المسلمين لصالح معاوية وفئته الباغية، فانحازوا إلى مكان يُدعى “حروراء” قرب البصرة، وانتخبوا إمامًا لهم من الصحابة يدعى عبد الله بن وهب الراسبي، ودامت المفاوضات بين عليّ من جهة والحروريين أو المحكّمة من جهة شهورًا باءت بالفشل الذريع، وتتابعت الحوادث بصورة متدهورة لتنتهي إلى مأساة مروّعة تُعرف بمعركة “النهروان”، في صفر من سنة 38هـ/ 658م.

ويمكننا القول -نظرا إلى النتائج التي تمخّضت عنها معركة النهروان- إنّها من أشدِّ المعارك دموية وفظاعة، فقد قُتل في هذه المعركة من المحكِّمة خلق كثير من أفاضل الصحابة وقرّاء القرآن على رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وحرقوص بن زهير السعدي، وزيد بن حصن، وغيرهم كثير. ولم تمض فترة حتّى تأثّرت المحكّمة بمقتل الكثير منهم في “النخيلة”، حيث قَتل معاوية بتأييد الحسن بن عليّ كثيرين منهم، وهكذا تتابعت الانهزامات والمآسي المروّعة ممّا كان له شأن كبير في توجيه الفكر الإسلامي بعد ذلك، كما أدّت هذه المآسي إلى أن يفقد المحكِّمة الزعيم القائد الذي يجمع كلمتهم ويوحّد صفوفهم.

وبتولّى زياد بن أبيه السلطة على العراق، شدّد الملاحقة والاضطهاد لكلّ مناوئ للسلطات الأموية، فكان زياد ثمّ من بعده عبيد الله يقمعان كلَّ حركة تقف ضدّ الأمويين، ويزجّان في السجون كلَّ من يُظنُّ فيه الخروج عن السلطة الحاكمة.

وهكذا أدّت هذه الوقائع المتتالية إلى أن ينقسم المحكِّمة إلى قسمين:

– قسم فضّل مراجعة النفس والرجوع إلى السلم، والتفكير في استخدام أساليب أخرى، ومن هؤلاء زرعت بذرة الاتّجاه المعتدل الذين منهم الإباضية.

– وقسم آخر فضّلوا الاستمرار على المنهج نفسه، منهج مواجهة السلطات بالعنف، واحتكموا إلى السيف انتقامًا لقتلاهم، بل ازدادوا تطرُّفًا حين اعتبروا كلَّ من خالفهم عدوًّا لهم، بل هو مشرك يستحلّ دمه وماله، وعن هذا المنهج تبلورت الأزارقة والنجدات والصفرية.

وكان على رأس الذين اختاروا العمل في الكتمان وتحوُّل الحركة من العلنية إلى السريّة أبو بلال مرداس بن حدير التميمي، هذا التابعي الجليل الذي اشتهر بورعه وتقواه، كما عرف بصلابته في الحقّ والجهاد ضدَّ جور الأمويين وظلمهم، واتّخذ هو وجماعته مدينة البصرة مقرًّا لهم، مؤثرين العمل في سريّة تامّة، داعين إلى انتهاج الحوار والدعوة إلى الله بالحسنى، وما لبثت هذه الجماعة أن تعزّزت بانضمام الإمام جابر بن زيد إليهم، وهكذا نشأ تيّار فكري وعقدي جديد، سيُعرف فيما بعد بـ “الإباضية”، وعُرفوا عند القسم الذي آثر استعراض الناس بالسيف بـ”القَعَدَة”، لأنّهم في تصوُّرهم قعدوا عن الجهاد ضدّ الحكّام الأمويين كما سنوضّح ذلك في مكانه». (منهج الدعوة عند الإباضية، الصفحات: 29-32)

Categories:   ندوة الإربعاء

Comments

Sorry, comments are closed for this item.