رسالة للشيخ يعيش بن موسى الجربي – الأستاذ يحي بوراس
جلسة يوم 02/09/2009م الموافق لـ 12 رمضان 1430هـ
الحمد لله الذي جعل العلم والعمل توأمين لبلوغ السعادة الدينية والدنيوية،
والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد المبعوث بشيرا ونذيرا وهاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.
أساتذتي الكرام، سادتي الأفاضل سلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته، وبعد:
نزولا عند رغبة أستاذنا الشيخ الحاج إبراهيم بن محمّد طلاّي حفظه الله وأدام النفع به، يسعدني أن أتقدّم أمامكم لأنشّط جلسة من الجلسات الثقافية المباركة إن شاء الله “إطلالة على كتاب”.
وقد وقع اختيارنا لهذه الجلسة على رسالة تاريخية مخطوطة، موضوعها لوم وعتاب إلى بعض طلبة وادي ريغ جنوب الجزائر، لزهدهم في العلم وعدم أخذهم بأسبابه، كتبها إليهم شيخ جربة على عهده الشيخ أبو الحياة يعيش بن موسى الزواغي رحمه الله.
وقبل الشروع في قراءة نصّ الرسالة جدير بنا أن نعرّف بالشيخ الكاتب للرسالة أوّلا، ثمّ إلقاء نظرة على منطقة وادي ريغ من خلال فقرة للمؤرّخ الموسوعي عبد الرحمن بن خلدون.
من هو الشيخ يعيش بن موسى؟
هو أبو الحياة أبو البقاء يعيش بن موسى الزواغي الخيري الجربي، من علماء جربة في القرن 8هـ/ 14م.
كانت نشأته في جبل دمّر بالجنوب التونسي، رحل إلى جربة للاغتراف من مناهلها العذبة، وكان تتلمذه على الشيخ صالح بن نجم المغراوي.
له الفضل في إنعاش الحركة العملية بها، وقد تولّى رئاسة العزّابة فيها. وأشهر من تخرّج على يديه العالم المدقّق الشيخ أبو الفضل أبو القاسم بن إبراهيم البرادي، والشيخ سعيد بن أحمد السدويكشي.
بعد حياة حافلة بالأعمال الجليلة وافاه أجله في 10 شوال سنة 787هـ (1385م).
ترك الشيخ آثارا، منها:
1- جوابا في التيمّم بعثه إلى سائل من مدينة قابس بتونس.
2- قصيدة في الفقه،
3- مرثية في العلماء الذين ماتوا في طاعون سنة 750هـ،
4- رسالة إلى بعض أهل وادي أريغ يلومهم على التقصير في طلب العلم، وهي موضوع جلستنا.
أمّا ما يتعلّق بمنطقة وادي ريغ، يقول ابن خلدون ما يلي: «وأمّا بنو ريغة فكانوا أحياء متعدّدة…نزل الكثير منهم ما بين قصور الزاب وواركلا، فاختطّوا قرى كثيرة في عدوة واد ينحدر من الغرب إلى الشرق، ويشتمل على المصر الكبير والقرية المتوسّطة والأطم… قد رفّ عليها الشجر ونضدت حفافيها النخيل، وانساحت خلالها المياه، وأزهت بنابعها الصحراء… وأكبر هذه الأمصار تسمّى تُقّرت، مصر مستبحر في العمران بدويّ الأحوال كثير المياه والنخل.» (كتاب العبر، ج7/ص98-99).
وكانت منطقة وادي ريغ آهلة بالعلماء وطلبة العلم منذ الفترات الإسلامية المتقدّمة، وقد لجأ إليها الإمام أبو عبد الله محمّد بن بكر الفرسطائي النفوسي في عام 409هـ عندما قرّر إرساء نظام حلقة العزّابة على أرض الواقع، حيث أشار على أصحابه إلى اتّخاذ ذلك الموطن نقطةً لانطلاق النظام التربوي الجديد بقوله: «إنّ هاهنا أناس رقاق القلوب، أرجو أن ينتجع فيهم الإسلام وينبت فيهم الخير، فهل لكم أن تنتقلوا بنا إليهم وهم مغراوة، فأجابوا إلى ذلك مسرورين مغتبطين…فعند ذلك انتقل إلى تين يسلي وانتقلت معه تلامذتُه.». (كتاب السيرة وأخبار الأئمّة، لأبي زكرياء يحي بن أبي بكر، الصفحة: ).
وقد صدقت فراسة الشيخ النفوسي رحمه الله، حيث ظلّت المنطقة مركز إشعاع فكري وازدهار عمراني لمدّة تناهز أربعة قرون.
وبعد هذا التمهيد ننقل مقتطفات من رسالة الشيخ يعيش.
« رسالةُ الشيخِ أبي الحياةِ عَمِّنا
يعيشَ بنِ موسى الخيَّري الجَربي رحمه الله
إلى بعض الطلبةِ لأهل أريغَ يلومهم في تقصيرهم
الإخوان الأجلّة الأولياء، الأحبّة الأتقياء، الأودّة الأصفياء، الأسنّة الأسمياء، أهل بلاد أريغ المعتادون بالوصف البليغ؛ شعر: سلامٌ كفيْحِ جنّةٍ من قرنْفُل * وبانٍ وألوي يُشاب بصَنْدَل…
أخُصُّ به من اتّبع الهدى وحاذَر عواقبَ الرَّدى…
ثمّ فالصَّلاةُ على محمّد المصطفى وعلى آله وأصحابه أهل الوفاء، والرضا عن الشراة الطرفاء، وعن الأئمّة الرسْتَمْيَّة المقسطين الشرفاء،
أمّا بَعْدُ ، لِتَعِ أفئدةُ مَنْ حضر الإجازة لكتابنا، ولِيَفْقَهَ ما تُلِيَ بين يديه من خطابنا…وليثقف ما ألقي لديه من إعرابنا ممّا قد اتّفق الطلبةُ على تسطيره وتواطئوا عليه يقظةً لأخي الغفلة في تذكيره، وهم إخوتُكُم أهل الجزيرة…
يا حسْرتى لدين أحيته السلف ومات…شعر:
أين الذين عهدتهم بالمـربع * أقْنَوا علوما تحكي سيْل المنبعِ
قد غودِرَتْ ديارُهم بالبَلْقَعِ * من الفضا صدْرًا ليوم المرجِعِ …
يا أهل أريغ والوصف البليغ، خُوّلتم أنهارا سارية وجنّات صارية، أُكلها دائم وظلّها، نعمة سابغة، ولذّة سائغة.
وأقصاكم الوطنُ عن الظلَمة الفجرة والمسودة الجائرة.
كُفيتم القحوط والشطوف، وعُفيتم المحول والقشوف، وأُورثتم صدقات جارية وأحباس ثاوية، لا يعتريكم تعذّر المعاش…أعطوا فقراءَكم صدقاتكم ليكتفوا ويتعلّموا، وآتوها علماءَكم ليجتهدوا…
قاطِنوا مساجدكم قَعَدةٌ جُثَمَة، وكهلانكم ضُجَّعَة نُؤَمَة، لو أنصفتم لما أوليتموهم معالفكم، ولا أمكنتموهم معاطفكم…
وإخوانكم هؤلاء (أي أهل جزيرة جربة) بُليوا بقحوط صالية، وقشوف جالية ومغانٍ بالية، ومع ذلك أعرابٌ طائلة وأجنادٌ غائلة وروم طائلة، ثمّ إنّهم لم يتناسوا التذكيرة نسيانكم، ولا تركوا التعلّم تركانكم…
أحببتُم الأبناء وعطّلتموهم الاحتفاء وعجّلتموهم الابتناءَ، لو صدقت محبّتكم لأبنائكم لأمكنتموهم الشطر من أموالكم ولأرسلتموهم في الشطن من البلدان، ولكن تكاسلتم فتكاسلوا والسلام…
ولا بالغتُ في السبّ وأوغلتُ في الشتمِ وإغلاظِ القول إلاّ ليَغير أحدكم، ولعلّ نائمًا يستيقظ، أو كاسِلاً يستنشِطْ، أو ناسيًا يستحفظ، أو عالِمًا يستلفظ.
ولا قصدتُ بذِكْر الجهل والخذلان وما أشبه ذلك ممّا يوجب البراءة إلاّ سفلةَ الناسِ الذين ليس فيهم حظّ للدنيا ولا للآخرة، إنّما ذلك على الخصوص لا على الإطلاق والعموم.
وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلتُ وإليه مآب. تمّت الرسالة.
الأستاذ يحي بوراس
Categories: ضيف الموقع, ندوة الإربعاء
Sorry, comments are closed for this item.