هل العولة قدر محتوم – د.صالح باجو
قضية العولمة كثر عنها الحديث فجأة على كل المستويات العلمية والاقتصادية والإعلامية والسياسية والفكرية والرأي العام. فهناك سيل يشبه الطوفان في تناول هذا الموضوع. بمختلف الطروحات والتفاسير، بين مغرق في التفاؤل ومتطرف في التشاؤم إلى أبعد الحدود.
العولمة في الواقع الاقتصادي تعود بنا إلى الرأسمالية المتوحشة التي لا ترحم، ولا تهتم بغير الإنتاج وتكديس الثروات على حساب كل القيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية. فنتج عنها زيادة البطالة وانخفاض الأجور وتدهور المستوى المعيشي، وتقلص الخدمات الاجتماعية للدولة، وإطلاق آليات السوق، وابتعاد الدولة عن التدخل في النشاط الاقتصادي، وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنين بصورة مطردة ليس لها حدود.
وتبدو قتامة المستقبل الذي سيكون صورة من الماضي المتوحش للرأسمالية في فجر شبابها، إذا ما سارت الأمور على منوالها الراهن حينما نعلم أنه في السنوات القادمة، سيكون 20 بالمائة من السكان فقط يمكنهم العمل والحصول على الدخل والعيش في رغد وسلام. وأما النسبة الباقية 80 بالمائة فتمثل السكان الفائضين عن الحاجة، ولا يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان والتبرعات وأعمال الخير( ).
وهناك اليوم 358 مليارديرا في العالم يملكون ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان المعمورة. أي ما يزيد قليلا عن نصف سكان المعمورة.
وأن 20 بالمائة من دول العالم تستحوذ على 85 بالمائة من الناتج العالمي الإجمالي. وعلى 84 بالمائة من التجارة العالمية. ويمتلك سكانها 85 بالمائة من مجموع المدخرات العالمية( ).
ومع تسارع عمليات العولمة فإن بعض المصطلحات المهمة التي شغلت ساحات الفكر والاقتصاد والعمل طويلا، مثل “العالم الثالث” و” التحرر” و “التقدم”. و”حوار الشمال والجنوب” و”التنمية الاقتصادية” لم يعد لها في دنيا العولمة أي معنى، خاصة وأن العالم المتقدم أصبح يتجاهل بصورة خطيرة مشكلات العالم المتخلف. بعد أن دخلت ديونها في نفق مسدود. وهذا ما يسمى بـ “ديكتاتورية السوق والعولمة”
خصائص العولمة:
* تتميز العولمة بفتح الحدود وحرية حركة انتقال رؤوس الأموال والسلع والخدمات والقوى البشرية بين دول العالم بلا قيود جمركية ولا عراقيل إدارية.
* ومعناه أن يصبح العالم كله سوقا واحدة.
* وهذا ناتج عن التطور التكنولوجي السريع في كل مجالات الحياة وخاصة في مجال ثورة الاتصالات.
آثار العولمة:
1. تنامي القدرة الاقتصادية والمالية لكثير من الشركات العالمية، للأسباب الكثيرة المتمثلة التكنولوجيا، وسعة الأسواق، واستغلال اليد العاملة الرخيصة في كثير من بلدان العالم.
2. الاعتماد المتواصل على الآلة والإنسان الآلي وأجهزة الكمبيوتر.
3. التخلص من التكاليف الزائدة لمواجهة المنافسة الحادة في الأسواق العالمية. وتجلى ذلك بارزا في تسريح العمال، والزج بهم في طاحونة البطالة.
4. ازدياد مشكل البطالة وآثارها المدمرة اقتصاديا واجتماعيا.
المنظور الإسلامي للعولمة:
1. الإسلام دين العلم والعمل، والعولمة نتيجة التقدم الناجم عن البحث العلمي والعمل المتواصل.
2. منطلقات وأهداف الإسلام تختلف عن منطلقات وأهداف العولمة المادية البحتة، التي ترمي إلى الكنـز والسيطرة على موارد الثروة، لمزيد من الغنى وجمع المال، ولو على حساب القيم الإنسانية والمبادئ الخلقية والروابط الاجتماعية.
3. الإسلام نظرته إلى المال نظرة معتدلة تجعله وسيلة لا غاية، وهدفه أخروي لا دنيوي فقط.
4. اقتصاد السوق موجود في الإسلام ، لحديث “دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض”.
5. ولكن ضوابط السوق في الإسلام محددة بقيم الدين. ومنها: تحريم الربا والغش “من غشنا فليس منا”، النهي عن النجش وعن الاحتكار وعن بيع ما لم تملك، وما لم تقبض، وما لم تضمن، وهذه قواعد مخرومة في الأسواق المالية والبورصات العالمية، حيث التعامل بالربا والسندات، الخ… وهي سبب لانهيار ماليزيا وإندونيسيا.
موقف المسلم من العولمة:
1. بالنسبة للعولمة المالية والاقتصادية، التمسك بقيم الدين وتعاليمه في مجال المعاملات.
2. بالنسبة للعولمة الثقافية، التي تهدف إلى قولبة العالم في النموذج الليبرالي الأمريكي المتحرر من كل قيود الدين والخلق، وتذويب الخصائص الثقافية للمجتمعات المختلفة في العالم. ولذلك يدعوها البعض بـ الأمركة. بدلا عن العولمة.
3. تتم مجابهة هذه الأمركة بالتمسك بالقيم الدينية والمرتكزات الثقافية، وخاصة وأن من إيجابيات العولمة إزاحة أو تقليص سلطة الدولة الفكرية بفتح الحدود أمام الثقافات عبر المحطات الفضائية وشبكة الإنترنت. وهذا يفسح المجال للجماعات لترسيخ قيمها وثقافاتها في حرية، وبعيدا عن رقابة وضغط السلطات. فعلينا السعي في ظل هذه الحرية لتركيز مقوماتنا وخصائصنا.
4. وهذا ما تقوم به مؤسساتنا الدينية والتربوية، والواجب تفعيلها وتطويرها.
خصائص المسلم الناجح:
العولمة تحد كبير، والمسلم الحقيقي مؤهل لمواجهة التحديات مهما كان نوعها وحجمها. وهنا يحسن التذكير بخصائص هذا المسلم.
1. العقيدة الراسخة في الله والمصير والجزاء.
2. التصور السليم للكون والحياة، وأنها دار ابتلاء.
3. التصرف الصحيح مع شؤون الحياة. باتباع السنن لبلوغ الأهداف.
4. يتجلى اتباع السنن في: الإخلاص في القصد. والصواب في الوسيلة والعمل.
5. يعني الصواب: المعرفة والتخطيط، والتنظيم، وحسن إدارة الوقت، وحسن التدبير، الاقتصاد في المعيشة.
6. ضرورة الجانب الخلقي: الصدق والصبر والتحمل. التضحية، التعاون، الإيثار، التفاؤل.
تجليات هذا على المستوى الجماعي:
يتجلى ذلك في:
1. إنشاء وتشجيع المراكز الثقافية وتنشيط الفعاليات الفكرية لمواجهة عوامل التذويب والمسخ.
2. إنشاء وتنمية الشركات الكبرى للقدرة على المنافسة، ولضمان القوة الاقتصادية، لأن المال قوام الأعمال.
3. مواكبة العصر في استغلال وسائله لغرس القيم وإثبات الذات، والانتقال من موقع الدفاع والانكفاء على الذات، إلى موقع التفتح والانفتاح على الآخر.
4. من أهم وسائل تحقيق هذا الطموح: استغلال وإنشاء البرامج التلفزيونية، والمحطات الفضائية، والإعلام المقروء في المجلات والجرائد، والإنترنت والأقراص المدمجة، الندوات والملتقيات العلمية، وكتب الجيب.
5. إنشاء مركز للبحوث المتخصصة، لدراسة مشاكل وقضايا عصرية حادة، وتاريخية وفكرية واجتماعية، مثل: البطالة، الطلاق، العنوسة، التسرب المدرسي، جنوح الأحداث، الإعلام، الإدارة، مؤسسة المسجد، دور المدرسة، التعليم الحر، تعليم البنت. شخصية المسلم المعاصر بين عقدة النقص وعقدة الاستعلاء. أزمة الماضي المفروض على الحاضر. إعادة تشكيل العقل والوعي.
د.مصطفى صالح باجو www.veecos.net
Categories: ضيف الموقع
Sorry, comments are closed for this item.