حـروف العِلّة، في حيـاة أهـل المِلّة – الدكتور عبد الرزاق قسوم
ليعذرني الإخوة الزملاء من الأساتذة والمعلمين، وطلاب المعرفة، إذ أعود بأذهانهم إلى مقاعد الدراسة، بعد أن غُلّقت أبواب المدارس، وبعد أن جفت الأقلام ورفعت الصحف. ليعذرني القراء، جميعا، في أن أنقلهم إلى أكثر القواعد النحوية والصرفية تعقيدا، وهي صيغ الفعل بجميع أزمنته، وما يلحق هذه الصيغ، مما اصطلح عليه بحروف العلة، وهي الحروف التي تعكس في أصواتها، أنواع الآهات والتأوهات والشكوى، مما يعانيه الإنسان من ألم، وما يحسه من وجع.
حروف العلة إذن، هي هذه الحروف التي تصيب الفعل الصحيح فتحوله إلى معتل، وقد تكون العلة في أوله أو وسطه أو آخره، ذلك ما اصطلح عليه فقهاء اللغة القدامى في تعاملهم مع الأفعال ومع الأسماء. وجاء فلاسفة اللغة المحدثون، واسقطوا ذلك على واقع الحال.
لذلك فأنا مدين في وضع عنوان هذا المقال، إلى فيلسوفين مغاربيين بارزين، أحدهما قديم هو الفيلسوف الأندلسي أبو الوليد بن رشد، وثانيهما معاصر هو الفيلسوف المغربي عبد السلام ياسين. فقد اضطررت إلى اقتباس شطرين من مصطلحيهما لأصوغ بهما تركيبا مزجيا، هو مصطلح “حروف العلة” المأخوذ من عبد السلام ياسين، و”أهل الملة” المقتبس من عنوان فيلسوف قرطبة.
على أن أشير إلى أنني سوف أنحو بعيدا عن الاستعمال الضيق لما قد توحي به مفردات العنوان، فابتعد عن المنهج الأفقي في التوظيف للمصطلح، لألجأ إلى المنهج العمودي مشخصا ذلك في واقع أهل ملتنا، مسقطا ذلك على حياة أمتنا. ففي عصر الخبرات الأيديولوجية، والمخابر العلمية، والدراسات الإستراتيجية، لابد من التصدي لمختلف المظاهر السلبية التي يفرزها واقع أمتنا، والتي توحي بوجود علل دفينة كمينة، تتطلب الكشف عن بواطنها، وتلح على ضرورة تحديد أسباب عللها.
ولا جدال في أن أمتنا، تئن من الشكوى، وترسل بنداءات استغاثة مما تعانيه من علل، تباينت أعراضها، وتعددت أمراضها، ولكنها جميعا تشير إلى وجود علل، وإلى أدوات لهذه العلل.
ففي أمتنا، داء “الأنيميا العقدية” على حد تعبير صديقنا محمد الهادي الحسني، وفيها داء فقد المناعة الحضارية، وفيها علة إعاقة اللسان والجنان، وفيها… وفيها، وهو ما أكسبها خواء فكريا، وغثائية وطنية، وعجمة عقلية، وذهالا حضاريا. أفلا يحق للدارسين على سلم الأنتروبولوجيا، والحضارة، والمقياس الوطني أن يسلطوا كل الأشعة الكاشفة لتحديد الفيروسات الطفيلية العالقة بشتى أجزاء أمتنا، والتي غدت بمثابة حروف العلة في صيغ فعلها، وهو ما يمثل الخطأ في الجملة الفعلية الوطنية، والتعويذة المشعوذة، في الجملة الاسمية الحضارية.
إن حروف العلة في واقعنا الوطني -اليوم- يجسدها أناس فَعَلة في أكثر من موقع، أصبحوا بمثابة الغثائية المبعثرة على أكثر من صعيد في هذا الواقع، فهم ذوو ذبذبة وطنية، يحملون أكثر من جنسية، فإذا لقوا الوطنيين منا، قالوا آمنا بأن لا وطن لنا إلا هذا، وإذا خلوا إلى غيرهم قالوا إنا معكم، إنما نحن مستهزئون. وإنهم هؤلاء الذين كفروا بدين هذه الأمة، وبلغة هذا الوطن، فما منهم إلا حبيس إيديولوجية معينة، أو منصب مستَغَل، أو تاريخ انتماء ضبابي، يطبقون بيداغوجيا خاصة، هي البيداغوجيا العلمانية والحداثية الفلسفية، والزئبقية الحزبية، كفروا بما آمنا به. فقد عربنا وهم عجموا، وأصّلنا وهم زوّروا، وشرّقنا وهم غربوا. أولئك هم الذين يمثلون أفعال العلة النشاز في جملتنا القومية، والنغمة الشاذة، في معزوفتنا الوطنية، فأصبحوا في دنيا الأمة، أشبه ما يكونون بما وصفهم القرآن به “أعجاز نخل خاوية” القاسم المشترك الأعظم، والجامع بينهم هو “الخواء”، بأشمل مدلولاته.
فأنى يرتجى لوطن هذه هي أعراضه، وهؤلاء هم أمراضه، أن يتحرر من ذهاله، وأن يعود إلى حقيقة ذاته، دون اللجوء إلى صدمات كهربائية قوية، تذيب الوهن، وتطرد المحن؟ لقد وصفهم عبد السلام ياسين المفكر المغربي بقوله: “هذه الحروف رحم تلد ذرية مثلها، محاضن تفقّس فراخ كفر، مبيدات تبيد الفطرة في نسلها الفكري، كما أباد فيهم أساتذتهم من غيرنا الفطرة” [حوار الماضي والمستقبل، ص 105-106].
إن حروف العلة -إذن- على ما يعتريها من نقص تمثل الفعل الأجوف، والناقص، فإنها تمثل كما يقول المفكر السوري القومي زكي الأرستوري، عبقرية اللغة العربية في لسانها، لأن هذه الحروف التي تمثل الجواء، كما أسلفنا، هي كامنة في صفوفنا، صامته، ولكنها بارزة وناطقة من حيث أفعالها ونتائجها.
مأساة بني جلدتنا، ممن تحولوا في واقعنا الفكري والحضاري، إلى حروف وأفعال علة، أنهم -لسذاجتهم أو لغبائهم- لا يزالون يبحثون لهم، عن نقطة ارتكاز صلبة خارج ذاتهم، والحال أنهم يملكون معتقدا، وتاريخا، فيه كل أنواع النواة الصلبة المضادة للزلازل. وبذلك تحولوا إلى “ذات مبعثرة”، فقد جهلوا أن أسلافنا الأولين وفي مقدمتهم أبو الوليد بن رشد، كان رائد الدفاع عن أهل الملة، وأنه كان الناقل الشارح الواعي، للتراث اليوناني إلى أوروبا في عصورها المظلمة، وأنه كان علامة رفع للعقل العربي الإسلامي، يفضل تحقيق ذاته، وتأكيد هويته، فلم يمسخ، ولم ينسخ، بل ظل كالطود، شامخ البنيان، حامل النور العقلي، والإيماني، لا لمجتمعه فقط، بل و للإنسانية قاطبة. فهل يعقل أن يصاب أحفاده بالعشوائية، في عصر النور، وبالظلامية في عصر الإيمان الصحيح؟
إن هذه العلل التي هي كالدود الذي ينخر العود، يكمن دواؤها في تحصين الذات بمصل مضاد للأنيميا العقدية، وتطعيم مضاد للكساح العقلي، وأخطر العوامل المسببة لانتشارها، هي المسخ الذاتي الثقافي، والتربية المضادة، وطمس العقول بالتعاويذ والشعوذة الحزبية أو الانسلابية.
إن مثل هؤلاء، كمثل ذوي الأجسام المرتجفة، والقلوب الخافقة من الصيبة الذين يخافون من الظلام.
إن صور المسخ كثيرة، ومتعددة، وأخطرها مسخ الذات، التي تتجلى في الإعاقة اللغوية، والذهال الفكري، والإنسلاب الحضاري، مما يقلب الممسوخ من صورته الأصلية إلى صورة أخرى، مزيفة، وبعدها لا يستطيع المستنسخ أن يعود إلى صورته الأولى، ولا يملك إمكانية الاندماج في الصورة الثانية.
ليس المقصود، من تشخيصنا لأعراض العلل في واقع أهل ملتنا، أن نغرق في التشاؤم، أو أن نحيل الواقع إلى لون سواد، أو لون وردي… ولكن المقصود من هذا كله هو أن نعمد كما عمد الفيلسوف الطبيب ابن سينا إلى الإشارات و التنبيهات، أو كما فعل ابن رشد إلى طريقة الدفاع عن عقيدة أهل الملة، أو كما فعل أخيرا، المفكر المغربي عبد السلام ياسين، إلى عزل كل حروف العلة من جسم أمتنا، وواقع وطننا كما تعزل الفيروسات الضارة الهادمة لخلايا التحصين والتمكين في الأمة.
إن مصيبة ثقافة ما، أن يتسلط عليها لقطاء الثقافة، أو أدعياء الوطنية، أو مريضوا العقيدة، فتهتز صورتها، وتختل صيرورتها، وتنعدم ضرورتها.
لذلك نبسط قلم ألم، وعين رجاء، في أن يعي الجميع واقع أمتنا المتردي، في محاولة لتشخيص الداء، كخطوة لإيجاد الدواء، ولعل هذا ما نطمح إليه في تحييد العلل وأدواتها وأسبابها من خلال هذه المحاولة، وذلك أضعف اليمين.
من موقع معهد المناهج www.veecos.net
Categories: ضيف الموقع
Sorry, comments are closed for this item.